عقد المجلس العربي للعلوم الاجتماعية، ضمن فعاليات مؤتمره الثالث حول الدولة والسيادة والفضاء الاجتماعي في المنطقة العربية، طاولة مستديرة بعنوان "السرديات النسوية في الواقع العربي بين الاستشراق الحديث والاستغراب المستحدث" في 11 آذار/مارس 2017 في بيروت.
أدارت الجلسة هانية شلقامي (الجامعة الأمريكية بالقاهرة)، وشاركت فيها هدى الصدة (جامعة القاهرة)، وحسن عبود (الجامعة الأميركية في بيروت)، وأميرة سلمي (جامعة بيرزيت).
تناولت الجلسة وضع مستقبل الفكر والفعل النسوي في العالم العربي في إيطار الانتقادات التي يتعرضان لها والتحديات الناتجة عن المستجدات السياسية، والسرديات النظرية والأكاديمية الحديثة.
ننشر في ما يلي مداخلة الدكتورة حُسن عبود. المداخلة متوفرة كملف PDF على هذا الرابط.
---------------------------------------------------------------------------------------
"النِسْوية الإسلامية" لا استشراقية ولا استغرابية
– حُسن عبود، كاتبة وباحثة في الدراسات الإسلامية وقضايا المرأة العربية المعاصرة
تعتبر "النِسْوية الإسلامية" أحد الاتجاهات البارزة في الخطاب النسائي العربي المعاصر. وبصفة "النِسْوية الإسلامية" جهدٌ علميّ تقوم به النساء المسلمات في مشروع إعادة قراءة النصوص الدينية من القرآن الكريم والحديث النبوي لربط الأحكام الفقهية الجزئية بالمبادئ الإسلامية الكليّة، ولنقد التراث الإسلامي المتحيّز ضد المرأة وحقوقها الإنسانية، فإن هذا الجهد يصبّ في تغيير أنماط الفكر الذكوري التقليدي وإحلال أنماط فكرية جديدة، مما يفرض مشروعًا حداثيًا قادرًا على سدّ الهوّة الواقعة بين التشريعات الإسلامية التقليدية المنعزلة عن التغييرات الإجتماعية ومتطلبات الدولة المدنية والمواثيق الدولية المتفق عليها، ومفهوم مواطنة النساء وتمتعهن بنفس الحقوق والواجبات والمسؤوليات كالرجال.
ستحاول مداخلتي التعريفببعض وجوه "النِسْوية الإسلامية" العربية مع إبراز منطلقاتها المعرفية، وإمكانية التواصل في ما بينها والتفاعل في مجالَي العمل النِسْوي والإنتاج المعرفي الإسلامي.[1]
مرجعية "النِسْوية الإسلامية" وهويتها
يتميّز خطاب "النِسْويّة الإسلامية"بتبادل المعرفة حول الإسلام بين خطابين: خطاب النِسْوية الإسلامية العربي المحلي (مِصر وتونس والمغرب) وخطاب النِسْوية الإسلامية خارج الحدود (أوروبا وأمريكا). لكن هذا الخطاب يميّز بين أوجه الاستشراق الجديد الذي تفرضه التبعية وتبتعد عن الموروث الأخلاقي الإسلامي في ما يخص "بناء الهوية" وبين الحاجة إلى تشكيل علاقات جديدة بين الرجال والنساء في المجالين الخاص والعام. وإن تنطلق هذه النِسْوية من المرجعية والهوية الإسلامية، كما تؤكد أماني صالح، "وتنبع المرجعية من الثوابت المتمثلة في القرآن والحديث الصحيح، ونقد الاجتهادات التفسيرية والفقهية في موضوعات المرأة من منظور مدى التزامها بهذين الأصلين ومن منظور سوسيولوجيا المعرفة لكشف ما انطوت عليه من انحيازات ذات أصول تاريخية وثقافية"،[2] فإن هذه الهوية، خارج إطار الوصاية الذكورية، ستشهد حتمًا تغيرًا ملحوظًا في المنطلقات المعرفية ذاتها. ووجوه "النِسْوية الإسلامية" الإصلاحية منها والتأويلية لا تشبه وجوه "النِسْوية الإسلامية" الراديكالية في أوروبا التي تكلّم عنها فهمي جدعان في كتاب خارج السرب: بحث في النسوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية (2010) لأن الإشكالية الأساسية بالنسبة إلى "النسوية الإسلامية" هي أنها ثورة على المفاهيم الدينية الذكورية لا ثورة على الإسلام، ومحاولة للإصلاح وتغيير الواقع من الداخل.
لمحة تاريخية من مصر النهضة
يُعيد خطابُ "النِسْوية الإسلامية" المعاصر لوجوه "نِسائيات" عصر النهضة تألّقها. و"نسائيات" عصر النهضة شارك بها رجالٌ ونساءٌ، أبرزهم قاسم أمين في تحرير المرأة (1899) وملك حفني ناصف في النسائيات (1910). كان الخطاب آنذاك يمزج بين قضايا الأمّة والإستقلال والإصلاح الديني وتحرير المرأة (مارغو بدران 1995). وكانت هذه النسائيات، بسرديات ملك حفني ناصف تدعو بالدرجة الأولى إلى تعليم البنات وتربيتهن، وتعالج قضايا إجتماعية تتعلق بالزواج والطلاق وتعدد الزوجات، وتنتقد مساوئ الرجال ومساوئ النساء، وتناقش السفور والحجاب مع رجال التنوير ورموزها، وتقارن بين المرأة المصرية والمرأة الغربية.
وحين طالبت ملك حفني ناصف (ت 1918)، في الخطبة التي ألقتها بحضور مئات من السيدات ورُفعت إلى أوّل مجلس أمّة في مِصر، "بالإصلاح وبتعليم البنات الدين الصحيح، أي تعاليم القرآن والسنة الصحيحة" كانت تشارك في مشروع الإصلاح الديني. وحين حاضرت عائشة عبد الرحمن (ت 1998)، صاحبة المنهج التجديدي في التفسير البياني للقرآن الكريم (1967) عن "المفهوم الإسلامي لتحرير المرأة" (1967)، كان مصطلح "المساواة" بحسب المفهوم القرآني واضح لديها على المستوى الأنطولوجي-الوجودي، ولم يشكّل هذا المصطلح لديها أي إشكالية، أو لم تره مرتبطًا بأي مشروع إستعماري جديد.
مع وجوه هذه "النِسْوية" لم يكن من المعقول التشبيك بين النساء تحت حراك أيّ حراك، ذلك أن النساء المِصْريات كنّ قد خرجن لتوّهن من الخِدر، ولم يصلن بعد إلى مستوى التعليم الجامعي، ولم تخترقن بعد أسوار المعرفة الدينية. إضافة إلى تأخّر النِسْويات المسلمات في الأكاديمية العربية عن تحصيل معرفة مماثلة عن زميلاتهن المسلمات في الأكاديمية الغربية بثلاثة عقود زمنية. ولن نجد - قبل تسعينات القرن المنصرم في البلاد العربية - إلاّ القليل من الدارسات بهذا الطرح العلمي الرصين لفهم النصوص الدينية ونقد الموروث المتحيز ضد المرأة. إن النساء المسلمات لم تخترقن أصلًا أسوار المعرفة العلمية أو الدينية بسهولة، طالبة أو أستاذة! و خيرُ مثالٍ على ذلك نِضالُ أستاذة الدراسات القرآنية، عائشة عبد الرحمن (ت 1998)، في طلب العلم في هذا الحقل المعرفي.[3] لذلك تفاعلت النِسْويات العربيات بريادة عالمة الإجتماع الراحلة فاطمة المرنيسي (ت 2015) في هذا المضمار، حين جمعت بين العلوم الإجتماعية والدينية، وتمرّست على منهجية النقد النِسْوي إلى درجة أدخلتها إلى عالم النبي والنساء والنخبة، وجرّحت أحاديث نبويّة ضعيفة أساءت إلى النساء ومشاركتهن السياسية في التاريخ الإسلامي (المرنيسي 1987).[4]
لم يكن التشبيك بين النِسْويات بالسهل قبل ولوجهن الجامعات العربية والأوروبية والأميركية، حيث بدأ الإهتمام بدراسة الحضارة العربية الإسلامية بين الفكر وعلم الكلام والتفسير والفقه والفلسفة والتصوّف يجذب الكثيرات ممن يسعين إلى مدخل لفهم قضايا المرأة في الإسلام.
بعض وجوه "النِسْوية الإسلامية" وسردياتها
دخَلَ تيار المعرفة الإسلامية إلى فضاء ما يُعرف اليوم بين النِسْويات المسلمات، الإصلاحيات منهن والتأويليات، ب "النِسْوية الإسلامية" عربية المنشأ.[5] وبدأت سرديات هذه النسوية تفرض نفسَها بين مجموعة أكاديميات وناشطات في جامعات ومؤسسات بحثية طليعية. في هذا الإطار، سنعرّف ببعض وجوه "النِسْوية الإسلامية" ومنطلقاتها المعرفية في محاورة النصوص وتأويلها. في مصر: أميمة أبو بكر في عملها على تاريخية تأويل مفهوم "القوامة"، وأماني صالح في حفرياتِها على مصطلح "النِسْوية الإسلامية" ومفهومها. في تونس: نائلة سليني وأطروحتها حول "تاريخية التفاسير وعلاقتها بالإرث"، وألفة يوسف في منطلق التحليل النفسي لحديث "النساء ناقصات عقل ودين". وفي المغرب: أسماء المرابط و"قراءة النماذج النسائية في القرآن الكريم قراءة للتحرّر"، والرائدة فاطمة المرنيسي في النقد النِسْوي على منهجية علم الجرح والتعديل لحديث "لم يفلح قوم ولوا أمرهم إمرأة".
سنرى في دراسة وجوه هذه "النِسْوية الإسلامية" وتأويلاتها للنصوص أنها تهدف إلى إخراج الوصاية الذكورية التي طالما استحوذت على المجال الديني لمأسسة دونية المرأة. إذًا تسعى هذه النِسْوية إلى أخذ زمام الأمور بيديها وإحداث ثورة على القيم الذكورية، مما يساهم في التغيير من داخل الإسلام، "الإسلام" الذي ما زال في مجتمعاتنا العربية الإسلاميّة يمثّل مرجعيّة ثقافية وقانونيّة إلى جانب مرجعيّته الأخلاقيّة والروحيّة.[6] ومع أن هذه "النِسْوية الإسلامية" تتفاعل مع مثيلاتِ لها في الغرب الأوروبي والأميركي وتتواصل معها، إلا أن هذه النِسْوية لا صلة لها "بالنِسْوية الإسلامية الرافضة" ووجوهها الاستغرابية المستحدثة في المدن الكونية، وهي لا تتبع بالتالي نموذجًا غربيًا مهيمنًا على الفكر الإجتماعي والثوري والسياسي العربي.
*** إن الأفكار والآراء الواردة في هذا النص هي آراء المؤلف/ة ولا تعبّر بالضرورة عن وجهات نظر المجلس العربي للعلوم الإجتماعيّة، ولا تلزمه بها.
[1] بالنسبة إلى التواصل بين الأكاديميات النسويات في مصر ولبنان وتونس والمغرب، أذكر مؤتمر "النسوية والمنظور الإسلامي (القاهرة، 2012) وإصدارات وندوات مركز الدراسات والبحوث النسائية في الإسلام بالرابطة الحمدية للعلماء في الرباط.
[2] صالح، أماني. 2013. "الأبعاد المعرفية لنسوية الإسلامية"، في أعمال مؤتمر النِسْوية والمنظور الإسلامي: آفاق جديدة للمعرفة والإصلاح، تحرير أميمة أبو بكر. القاهرة: مؤسسة المرأة والذاكرة.
[3] أنظر كيف تبرّر د. عائشة عبد الرحمن اشتغالها بالدراسات القرآنية في "المفهوم الإسلامي لتحرير المرأة" (القاهرة، 1967).
[4] المرنيسي، فاطمة. 1987. الحريم السياسي: النبي والنساء. باريس: ألبان ميشال.
[5] عبود، حُسن. "أدبيات عامة وأساسية لنسوية إسلامية عربية المنشأ"، في أعمال مؤتمر النِسْوية والمنظور الإسلامي: آفاق جديدة للمعرفة والإصلاح، تحرير أميمة أبو بكر. القاهرة: مؤسسة المرأة والذاكرة.
[6]أنظر نصر حامد أبو زيد: "ولقضيّة المرأة أبعادها الاجتماعيّة والثقافيّة والفكريّة داخل كلّ بنية مجتمعيّة، كما أنّ لها أبعاداً ذات طبيعة إنسانيّة تتجاوز حدود البنية المجتمعيّة الخاصّة. هذا التشابك والتعقّد يضاف إليه بُعد خاصّ من مجتمعاتنا العربية الإسلاميّة هو بعد "الدين" الذي ما زال يمثّل مرجعيّة شرعيّة وقانونيّة إلى جانب مرجعيّته الأخلاقيّة والروحيّة". (أبو زيد، نصر حامد. 1994. المرأة في خطاب الأزمة. 43. القاهرة: دار النصوص للنشر.)